الحمد لله ، وبعد ..
1_آية في الاستنباط :
قال الداودي عنه فيما نقله عن الحافظ ابن حجر رحمهم الله : ( كان آية في استخراج الدقائق من القرآن والسنن ) ( 1/ 146 )
قال مُقَيِّدُه غفر الله له :
فيه إشارة إلى أهمية استفراغ الوُسْع ، وكدِّ الخاطر ، وجهد العلم في استنباط الدُّرر والمسائل من كتاب الله تعالى .
وهذا الأمر له شروط وأسباب ، ومن أعظمها :
1_ ( ترك الذنوب ما استطاع ) وتكفيك قصة الإمام الشافعي رحمه الله ونظمه : ( شكوت إلى وكيع سوء حفظي .. )
2_ الدعاء بأن يفتح الله عليك ، ولقد كان الشيخ الأعجوبة ابن تيمية رحمه الله يضع خده على التراب ويقول : ( اللهم يا مُعلِّم إبراهيم عَلِّمنِي ، ويا مُفَهِّم سليمان فهَّمنِي ) فيفتح الله عليه جُمَلاً من الفتوح وهو الفتَّاح العليم .
3_ الإخلاص والصدق مع الله لنفع النفس أولاً ، وللأمَّة ثانياً ، وقد قال ابن الجوزي رحمه الله : ( إنمَّا يتعثَّر من لَمْ يُخْلِص )
4_ التَّحصيل والإلمام بقواعد الاستنباط المنثورة في طَيَّات الكتب ، ويمكن الرجوع للتالي :
أ . الإكليل لاستنباط التنزيل للسيوطي رحمه الله ( واقتنِ طبعة دار الأندلس الخضراء ( رسالة علمية ) فقد اعتنى بها المحقق وفقه الله أيَّما اعتناء ، وفهرس في الخاتمة فهارس جيدة ) وهذا الكتاب يُعين على معرفة كيفية الاستنباط بالأمثلة .
2 _ قواعد التدبُّر الأمثل لكتاب الله . فيه نفائس عالية ، ولو هُذِّب واختصر لخرج بأبسط وأيسر مما خرج .
3_ ( يترقب ) رسالة الشيخ فهد الوهبي وفقه الله الموسومة بـ : ( منهج الاستنباط من القرآن الكريم ) وستطبع في معهد الإمام الشاطبي بجدة ؛ فيسَّر الله لها ذلك .
2_أخلاق عالية :
قال الداودي رحمه الله عنه : ( ملازماً لأشغال الطلبة في العلوم الإسلامية بغير طمع ، بل يخدمهم ويعينهم ، ويُعير الكتب النفيسة لأهل بلده وغيرهم ، مَنْ يَعْرِف ومَنْ لا يَعْرِف ) ( 1/ 146 )
قال مُقَيِّدُه غفر الله له :
مِنْ أجمل ما تراه العين ، أن تَنْعم بالعالِم العامل ذي الخلق الحسن .
ويَنْعم النَّظرُ أكثر حين تجد الشيخ كبير القدْر ، عظيم العلم ؛ جميل التواضع ، حسن الأخلاق ، سهل المنال ، يسير المطلب ، مِعْواناً ، باذلاً لطلاَّب العلم ما يُقرِّبُهم نحو الله ، من العلم ، والنصح ، بل حتَّى النفقة لو تطلَّب ذلك .
كم يفرح طالب العلم حين يجد أهل العلم على هذه السِّمَة الطيِّبة ؛ فلا حرمنا الله منها ، ونسأله المزيد من فضله الكريم .
إن مثل هذه المواقف لتُؤثر في نفس التلميذ أيَّما تأثير ، وتُحبِّبُه بالعلم وأهله ، وقد كان من حال شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الباب ما يُذهل العقل ، خاصة مع خصومه ؛ فرحمه الله رحمة واسعة وبرَّد ضجيعه .
فهذه دعوة لسماحة الخُلق ، ولين الجانب ، وبذل النفس ، وخدمة الإخوان ، وقبل هذه كلِّه إخلاص العمل له سبحانه ، والموفَّق من وفقه ربه .
3_ حاشيته على الكشَّاف :
قال الداودي رحمه الله عنه : ( شرح ( الكَشَّاف ) شرحاً حسناً كبيراً ) ( 1/ 147 )
قال مُقَيِّدُه غفر الله له :
أما شرحه هذا ؛ فهو حاشيته المسمَّاة : ( فُتُوحُ الغَيْبِ في الكَشْفِ عن قِنَاعِ الرَّيْب )
وهي حاشية نفيسة ، غدت أميز وأنفس الشروح على الكشاف .
ولا تعجب فلها سِرٌّ مليح ، وقصةٌ لطيفة !
فقد ذكر الداودي رحمه الله عنه : ( أنه قُبَيل الشروع في هذا الشرح ، رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النَّوم ، وقد ناوله قدَحاً من اللبن ؛ فشرب منه ) ( 1/ 147 ) وقارن ذلك مع قصة عمر تُدرك أن الله قد فتح عليه حظاً وافراً .
تنويه : اللبن في المنام ليس بِمُطَّردٍ على الدوام في ذلك ، و رُؤَى كل إنسان تختلف عن غيره ؛ لمناسبة أمره ، وهذا يعرفه المُعبِّرون . فنسأل الله الكريم من فضله
وانظر هنا زادك الله علماً وعملاً صالحاً عن ( فُتُوحُ الغَيْبِ ) 4_ الجَلد في التَّعْلِيم وحُسْن خاتمةٍ في انتظار الصَّلاة :
قال الداودي رحمه الله عنه : ( وعقد مجلساً لقراءة صحيح البخاري ، وكان يشتغلُ في التفسير من الشروق إلى الزوال ، ومن ثَمَّ إلى العصر في البخاري إلى يوم مات .
فإنه فرغ من وظيفة التفسير ، وتوجَّه إلى مجلس الحديث ؛ فصلَّى النافلة ، وجلس ينتظر الإقامة للفريضة ؛ فقضى نحبه ، متوجِّهاً إلى القِبلة ) ( 1/ 147 )
قال مُقَيِّدُه غفر الله له :
وهنا جملة من الفوائد :
الأولى : النَّفس الطويل في التعليم والمدارسة .
وهذا لا زال معمولاً به عند كبار أهل العلم يبدؤون من الفجر وحتى الزوال أو قبيل الزوال ، يتناولون جملة من العلوم والفنون ، ومن هؤلاء شيخنا العلامة الدكتور عبد الله بن جبرين حفظه الله ؛ فقد حضرتُ بضعة أيام عنده متفرقات وكان يشرح في العقيدة ، والتفسير ، والنحو ، والمصطلح ، والفقه ، والحديث ، وكتب شيخ الإسلام ، والشيخ حفظه الله يُعَلِّق على ما يُقرأ .
وحدثني شيخنا العلامة أ.د عمر الأشقر حفظه الله عن دروس سماحة الشيخ ابن إبراهيم رحمه الله التي حضرها ؛ بمثل هذا ، وكان أكثر مدة ربما تصل إلى الظهر ، وكان أعجوبة في الحفظ الاستظهار ، فرحمه الله تعالى .
ومن أعجب ما قرأتُ في الْجَلَدِ على القراءة في التفسير والعناية به ، ما قاله الشيخ ابن حميد في ترجمته للشيخ عبد الله بن فائز أبا الخيل _ المتَوَفَّى سنة (1251) أحد علماء نجد _:
( وله مدارسة في القرآن العظيم مع جماعة في جميع ليالي السنة ، ويقرءون إلى نحو نصف الليل عشرة أجزاء وأكثر .
وأعرف مرة أنهم شرعوا من سورة الفرقان بعد العشاء وختموا ! وكنتُ أحضر وأنا ابن عشر مع بعض أقاربي فيبلغني النوم ؛ فإذا فرغوا حملني إلى بيتنا وأنا لا أشعر ، وكان مع القراءة يراجع « تفسير البغوي» والبيضاوي كل ليلة رحمه الله تعالى»
نعم ، الموفق من وفقه ربه والله . نسأل الله العلي من فضله .
الثانية : حسن خاتمة هذا الإمام رحمه الله رحمة واسعة ، فقد كانت بعد مجلس التفسير ، وقبل مجلس الحديث ، وفي انتظار الصلاة ، فهنيئاً له يبعث يوم القيامة على أشرف حال ، وأهنئ مقام ، وأجره في انتظار الصلاة إلى قيامة الساعة .
وما كل أحد يُوفَّق لخاتمة حسنة ، فمن يعمل صالحاً في حياته يوفق لها ، وإلاَّ والعياذ بالله تكون خاتمة على غير مَحْمَدٍ .
أسأل الله لي ولأحبتي في الملتقى حسن الخاتمة .
والله أعلم .