المسألة الثامنة :حرمة دخول المشركين مكة المكرمة :
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَاٌ) (التوبة:28) .لا شك أن أشرف ، وأطهر بقعة على وجه الأرض هي بيت الله ؛ الكعبة ، وحرمه الشريف . ولا شك أيضاً أن أحط ،وأنجس فعل يصدر من الإنسان هو الشرك بالله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(لقمان: من الآية13) فلا تناسب بين المشرك النجس ، والبيت المطهر . ولا شك أيضاً أن الإسلام يعتبر الإنسان الذي تنكر لما خلق له من عبادة الله قد وضع نفسه أسفل سافلين ، وأنه حين يستقيم على عبادة ربه يعود إلى فطرته الأولى التي خلقه الله عليها في أحسن تقويم ، ويكون جديراً حينئذ أن يدخل بيت الله ، بعد أن دخل في دين الله . أما أن يكون عدواً لله ثم يطلب دخول بيته ، فهو أمر لا يقبله الناس فيما بينهم ، فكيف يكون سائغاً في حق الله ؟!
وقول القائل : ( أليس الله رب الجميع ، فلماذا يحتكر المسلمون بيت الله لأنفسهم دون غيرهم ؟ ) ضرب من المغالطة اللفظية ، والتجديف الكلامي . وجوابه : أن ربوبية الله نوعان : ربوبية عامة ، لجميع الخلق ؛ فهو خالقهم ، ورازقهم ، ومدبر أمورهم ، وربوبية خاصة : وهي لأوليائه المتبعين لرسله ، الذين يوحدونه بالعبادة ، ولا يشركون معه أحداً سواه . ثم هو سبحانه قد نهى عباده المؤمنين عن تمكين المشركين من قربان بيته المطهر ، بسبب تلطخهم تلطخاً معنوياً بنجاسة الشرك ، فامتثل عباده أمره .
إن مصطلح ( كرامة الإنسان ) يختلف بين الاعتقاد الإسلامي ، والمفهوم الكنسي. فالعقيدة الإسلامية تربط تلك الكرامة بأداء الإنسان للوظيفة التي فطر عليها، وخلق من أجلها ، قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56) فإذا انحرف عن تلك الفطرة الأصلية ، وارتد عن الوظيفة الأساسية ، فقد تلك الكرامة . قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (التين 4-6) . بينما تقرر الكنيسة دوماً أن الإنسان كريم مطلقاً ، مهما بدر منه من خطيئة !! وهذا خلاف النقل والعقل.
المسألة التاسعة : منع المملكة العربية السعودية بناء معابد الكفار على أرضها :
المملكة العربية السعودية تنطلق من منعها إقامة المعابد غير الإسلامية على أراضيها من منطلقات شرعية ملزمة للدولة التي تتشرف بحضانة الحرمين الشريفين ، والسيادة على جزيرة العرب . وهذا محل اتفاق بين المسلمين، قديماً،وحديثاً، وليس إجراءً محلياً طارئاً، كما يتوهمه بعض من لا يعرف أحكام الشريعة الإسلامية . فإن من الخصائص الشرعية للجزيرة العربية أن تكون معقلاً للإسلام . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يترك بجزيرة العرب دينان ) رواه أحمد . والمقصود أن يكون الدين الظاهر هو الإسلام فقط ، ولا يسمح لغيره بالاستعلان من خلال بناء المعابد ونحوها .
ولا وجه لاستغراب هذا التشريع من قبل غير المسلمين . فلم تزل كل ملة على وجه الأرض تقدس بعض البقاع ، وتخلع عليها صفة الخصوصية الدينية . فالفاتيكان لا يأذن بإقامة كنيسة بروتستانتية ، أو أرثذوكسية ، فوق أراضيه ، فضلاً أن يخطر ببال أحد أن يأذن بإقامة مسجد ، أو معبد لديانة غير النصرانية . كما أن دولة الفاتيكان عقدت معاهدة ( لاتران ) مع الحكومة الإيطالية عام 1929م ، تنال بموجبها خصوصية دينية ، دون أن يقول قائل : أليس هذا من تقديس الجغرافية ، والاعتداء على حرية الأديان الأخرى !! لقد رفض الأساقفة اليونان ، والأقباط دخول البابا (يوحنا بولس الثاني) أسقف الكنيسة الكاثوليكية كنائسهم ، واضطر إلى إقامة قدَّاسه في فناء دير سيناء ، وهم أتباع ملة واحدة !!
فكما تواضع العالم على اعتبار الفاتيكان معقلاً للكاثوليكية، وحوض نهر (الغانج ) مغطساً للهندوس، وجبل ( هيي Mt. Hiei) قرب العاصمة اليابانية القديمة ( كيوتو ) موقعاً مقدساً للبوذية ، فليتواضع العالم أن الجزيرة العربية معقل للإسلام .
بقي أن نشير إلى أن التسهيلات التي تمنحها بعض الدول الغربية للمسلمين من مواطنيها، والمقيمين فيها، لم تكفلها الكنيسة الكاثوليكية ، ولا مجلس الكنائس العالمي . بل منحتها إياهم الأنظمة الليبرالية التي تعتنقها معظم الدول الغربية ، بعد تخلصها من نير الكنيسة . وبالمقابل لا زال النصارى في البلاد الإسلامية يحتفظون بكنائسهم منذ عشرات القرون ، وفاءً من المسلمين بعهد الذمة .
المسألة العاشرة : الحدود :
الإسلام نظام شامل ، كامل ، متوازن ، ذو أساس عقدي ، وتشريع اجتماعي ، وتوجيه تربوي ، يرفد بعضه بعضاً ، وينتج بمجموعه مجتمعاً صالحاً ، تتسع فيه دواعي الخير والبناء ، وتضيق فيه مجاري الشر والهوى . وهو بذلك يفارق الكهنوت الكنسي الذي يقصر مفهوم الدين على طقوس معينة، في وقت معين، في موضع معين ، ويفصل بين ما هو ديني ، وزمني ، ويدع ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله !
إن تحقيق العبودية لله في الإسلام يكون بالإيمان بالكتاب كله ، وعدم تجزئة الدين بالإيمان ببعض الكتاب ، والكفر ببعض ، قال تعالى : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(البقرة: من الآية85) . وبالتالي فإن قضية الحدود والتعزيرات ليست محلاً للبحث والنقاش ، ابتداءً ؛ إذ هي جزءُ من الإيمان بحكمة الخالق ، وعلمه بمن خلق ، قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) .
إن حقوق الإنسان لا تصان على حساب أخيه الإنسان ، وإنما تصان بإحدى طريقتين : إما بوازع الإيمان ، وإما برادع السلطان . وقد أثبتت التجارب البشرية والقوانين الوضعية ، المنفلتة عن هدى الله عجزاً ، وقصورا عن حفظ كرامة الإنسان ، وحمايته من الفساد والإفساد ، كم تنطق بذلك إحصاءات معدلات الجريمة في الدول المتقدمة ، فضلاً عن المتخلفة .
إن الإسلام لا يبيح للإنسان أن يظلم نفسه ، فضلاً عن غيره ، بأي نوع من أنواع التصرفات الخاطئة ، سواءً ما تعلق بالدين، كالردة ، أو النفس، كالانتحار ، أو المال ، كالتبذير ، أو العقل ، كشرب المسكر ، أو العرض ، كالزنا . وهي الضرورات الخمس التي تدور عليها مقاصد الشريعة . ولا صحة إطلاقاً لتعليق ذلك بالاختيار الشخصي، أو التراضي بين طرفين، فضلاً عن نسبته إلى مذهب من المذاهب الإسلامية.
المسألة الحادية عشرة : المناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية :
من البدهي أن يسعى المسلم إلى تمثل دينه ، وتطبيق إيمانه ، في نفسه ، وأسرته ، ومجتمعه ، ثم في بلده . ومن العجب أن تُحمل المجتمعات الإسلامية على تنحية شريعتها مراعاة لأقلية غير مسلمة ، على حساب الأكثرية المسلمة !! إن بناء الديموقراطيات الحديثة يقوم على إنفاذ رغبة الأكثرية ، حتى ولو ظل جزءُ من المجتمع رافضاً . فكيف يستنكر على المسلمين في بلادهم أن يمتثلوا أمر ربهم ، ويحكموا شريعته ، لأجل نفر من دونهم ، قد حفظت الشريعة حقوقهم الخاصة ، ورتبت لهم ما يليق بهم ، ويحمي مصالحهم المدنية ، ما داموا ملتزمين بالنظام الإسلامي العام ؟! إن لكل دولة اتخاذ الترتيبات الملائمة لها ، دون ظلم أو حيف . ونحن نشهد في السنوات الراهنة لدى الدول الغربية من الممارسات المتعسفة في حق المهاجرين ، والأقليات العرقية ، والمجموعات الدينية ، ما ينافي ما يدعونه من مراعاة حقوق الإنسان . ولا أدل على ذلك مما لحق المسلمين ، أفراداً ، وهيئات، في الولايات المتحدة ، وأوربا ، من اضطهاد ومعاناة ، وأخذٍ بجريرة غيرهم .
المسألة الثانية عشرة : معنى قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى)(المائدة: من الآية82) .
تشكل هذه الآية على بعض الناس ، حين تجبههم النصوص الأخرى الدالة على ذم النصارى ، وتكفيرهم ، وتضليلهم ، وتحريم موالاتهم ، وهي كثيرة في القرءان والسنة . وسر هذا الإشكال أنهم يظنون أنها تؤسس لعلاقة مودة دائمة بين المسلمين ، والنصارى المصرين على نصرانيتهم ، الرافضين للدخول في الإسلام . وحقيقة الأمر أن الآية المذكورة تشير إلى أن أقرب أتباع الملل قبولاً للحق ، واعتناقاً للإسلام، هم النصارى ، على وجه الجملة ، لما يتمتعون به من صفات نوعية تؤهلهم لقبول الحق ممن جاء به ، دون كبر ، أو تعصب . وهذا ما تفيده بشكل جلي تتمة الآية الكريمة والآيتان بعدها ، حيث يقول الله تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ . وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) (المائدة:82-84) . فجمعوا بين العلم ( قسيسين ) ، والعبادة ( رهباناً ) ، والتواضع ( لا يستكبرون ) ، ورقة القلب ( ترى أعينهم تفيض من الدمع مما سمعوا من الحق ) . بخلاف غيرهم من اليهود والمشركين .
فالآية صريحة في الثناء على قوم آمنوا بالله ، وبالقرءان ، وبالرسول صلى الله عليه وسلم ، وانخرطوا مع القوم الصالحين ، من الصحابة والتابعين . وهي من جنس قوله تعالى : (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ . وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) (القصص:51-53) . وأما من أصر على مقالة التثليث ، ودعوى ألوهية المسيح ، وبنوته ، فقد أكفره الله في ثلاثة مواضع من آخر ما نزل من القرءان ، فقال : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) ( المائدة : 17،72 ) وقال : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة:73) . وبهذا يندفع الإشكال .
المسألة الثالثة عشرة :آيات الجهاد :
الإسلام دين الله للناس جميعاً ، ومحمد صلى الله عليه وسلم رسوله للناس جميعاً ، والقرءان كتابه للناس جميعاً ، لا تختص به أمة دون أمة ، ولا أرض دون أرض ، ولا حقبة من التاريخ دون أخرى . والدعوة إليه مهمة الأمة المسلمة ، مهما كان عرقها ، أو لغتها ، أو موقعها . والأصل في دعوة الناس البلاغ المبين ؛ بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن . فإن حال دون هذا الهدف حائل مادي ، لزم السعي لإزالته ، وتمكين الناس من سماع الحق والتزامه ، بحيث يكون الدين كله لله وهذا السعي هو الجهاد . تارةً يكون بالحجة والبيان ، وتارةً يكون بالسيف والسنان ؛ بحسب اختلاف أحوال الأمة ، قوةً ، وضعفاً ، وبحسب اختلاف الطرف المقابل قبولاً ورفضاً . وهذا ما يفسر تنوع آيات الجهاد في القرءان ، بحيث تفهم الآية في سياق مرحلة معينة . ويأتي دور الفقهاء ، والخبراء ، في تنزيل التشريع المناسب على المرحلة المناسبة ، وهو ما يعرف بالسياسة الشرعية .وتبقى مهمة الأمة الإسلامية ثابتةً لا تتغير: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104) (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه)(آل عمران: من الآية110) .
.
المسألة الرابعة عشرة : إن الدين عند الله الإسلام :
يعتقد المسلمون أن دين الله واحد ، وأن ماجاء به أنبياء الله من لدن آدم إلى محمد، صلوات الله وسلامه عليهم ، واحد ، وهو الإسلام ، بمعناه العام ، الذي هو توحيد الله بالعباده ، والخلوص له من الشرك . قال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)(الشورى: من الآية13) فكانت دعوتهم واحدة : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:25) . وإنما وقع التنوع في الشرائع ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ، ودينهم واحد ) متفق عليه . فما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من العقائد الصحيحة ، والشرائع العادلة ، والأخلاق القويمة ، هو الإسلام بالمعنى الخاص ، الذي نسخ الله به جميع الأديان ، فلا يقبل ديناً سواه ، كما قال : (ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85) ، وكما قال صلى الله عليه وسلم
والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي، ولا نصراني،ثم يموت،ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم.
ويعتقد المسلمون أيضاً أن ما سوى الإسلام من الأديان إما فاسد من أصله ؛ كالديانات الوثنية ، أو صحيح الأصل ، لكن طرأ عليه التحريف والتبديل ؛ كاليهودية والنصرانية ، وما صح منهما فهو منسوخ بالإسلام . وقضية تحريف العهدين القديم ، والحديث، واختلاف نسخهما ، باتت محل تسليم من الباحثين اللاهوتيين ، وليست مجرد دعوى يطلقها المسلمون ، بناءً على الأدلة القطعية في الكتاب والسنة . ومن ثم فإن العقيدة الإسلامية تمثل حقيقة دينية كاملة ، لا يتطرق إليها الخطأ في حد ذاتها، لكونها مصونة محفوظة . وليس معنى ذلك أن ليس مع أهل الكتاب صواب مطلقاً. بل ثم صواب مشوب بخطأ وتحريف ، يكوِّن منظومة باطلة ، لا يصح الاعتماد عليها. وليس في نصوص القرءان ما ينافي هذه المسلمة ؛ فقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (الحج:17) ليس فيها أدنى تزكية للملل الأخرى ، أو إيحاء بأنهم على حق ، كما توهمه بعضهم ، بل غاية ما فيها الإخبار بأن الله تعالى سيجمع هذه الطوائف يوم القيامة ، ويفصل بينهم بحكمه العدل المبني على شهادته لأعمالهم . وكل هذه الطوائف الضالة بإزاء الذين آمنوا ، ولذا قال بعدها : (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ )(الحج: من الآية19) فذكر الذين كفروا ومصيرهم ، ثم ذكر الذين آمنوا ومصيرهم .
.
المسألة الخامسة عشرة : الجزية :
فرض الجزية على غير المسلمين من أهل الذمة ، مقصوده الأعظم كون الدين كله لله ، وكون كلمة الله هي العليا ، باستسلام غير المسلمين ، وإذعانهم لأحكام الملة .وقد يقترن بهذا الهدف أهداف أخرى من مقتضى عقد الذمة،مثل:الكف عنهم والحماية لهم. وهذا العقد ينقل غير المسلم من صف المحاربين ، الذين تستباح دماؤهم وأموالهم ، في كل شرعة ، إلى بر الأمان ، حيث تتكفل الأمة المسلمة ، بأجمعها ، لا الحاكم فقط ، بحفظ حقوقهم المدنية ، والذود عنهم ، وافتكاك أسيرهم ، وإطعام جائعهم ، وكسوة عاريهم ، في حال العجز . فهو عقد كسائر العقود ، يتضمن حقوقا ، ويترتب عليه واجبات . وهو بهذه النتيجة لون من ألوان التسامح ، مقارنة بما يفعله المنتصرون في الأمم الأخرى بالمنهزمين ، من إبادة ، وتهجير ، واسترقاق .
إن عقد الذمة لا يحمل المسلمين على نبذ مواطنيهم ، وقطع الإحسان إليهم ،كلا ! بل جاءت النصوص بوجوب العدل في معاملتهم ، والترغيب في الإحسان إليهم . ومن صور ذلك : حسن جوارهم ، وعيادة مريضهم ، وتشميت عاطسهم ، والقيام لجنائزهم ، وجواز الصدقة والوقف على فقرائهم، بل والوصية لهم ، ومنحهم حرية التنقل ، والتكسب ، والاتجار ، داخل دار الإسلام .وكل ذلك معروف في الشريعة . ومن ثمَّ ، فإن عقد الذمة لا يناقض مدلول قوله تعالى : (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:
. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وصحبه وسلم.
كتبه / د. أحمد بن عبد الرحمن بن عثمان القاضي
عنيزة . في 16/7/1424